[هذا الجزء الثاني من مقابلة أجراها المركز اللبناني للدراسات مع محرر جدلية والباحث زياد أبو الريش، وهي تركّز على قطاع الكهرباء ومسائل تتعلق بمؤسسات الدولة في بداية عهد الجمهوريّة اللبنانيّة. وتجدر الإشارة إلى أنه تم إجراء هذه المقابلة قبل انطلاق الحراك الكبير في بيروت في شهر أيلول 2015. أما الجزء الأول فناقش خلاله تاريخ مؤسسات الدولة في بدايات الاستقلال في لبنان وبعض الموروثات التي خلفتها. يمكن قراءة الجزء الأول هنا]
***
تحدث المركز اللبناني للدراسات مؤخّرًا مع الدكتور زياد أبو الريش لمناقشة تاريخ مؤسّسات الدولة خلال المراحل الأولى للاستقلال في لبنان، واستقاء المعلومات والاستفادة منها في التحاليل والنقاشات الحاليّة المتّصلة بالخدمات التي تقدمها الدولة في لبنان. ويُذكر أنّ الدكتور أبو الريش هو بروفسور مساعد في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة أوهايو وهو في صدد إعداد كتاب بعنوان: Making the Economy, Producing the State: Conflict and Institution Building in Lebanon, 1946-1955 (صنع الإقتصاد، إنتاج الدولة: النزاع وبناء المؤسسات في لبنان، 1946 – 1955). الدكتور أبو ريش حائز على شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلس، حيث قدّم أطروحة حول الموضوع نفسه. وقد نشر العام الماضي قسمًا من بحثه حول الكهرباء في بيروت في مقالة نُشرتها المجلّة الإلكترونيّة "جدليّة" الّتي يعمل فيها كرئيس تحرير مساعد.
***
شكّل قطاع الكهرباء في لبنان محطّ اهتمام في السنوات الأخيرة، بصفته مرفقًا عامًّا ومشغّلاً في الوقت عينه. جُلّ ما قيل حول هذا الموضوع لناحية عرقلة توليد الطاقة الكهربائيّة وتوزيعها بالشكل الملائم، قضى بالقاء الملامة على الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975 – 1990). فكيف تقيّم هذا الزعم استنادًا إلى بحثك حول الإقتصاد السياسي في فترة الاستقلال في مراحله الأولى؟ وكيف يمكننا أن نصف تغيّر طبيعة قطاع الكهرباء بين السنوات الأولى للاستقلال وعشيّة الحرب الأهليّة؟
لا شكّ أنّ مرحلة الحرب الأهليّة، بما فيها الغارات الجويّة الإسرائيليّة وما رافقها من اجتياحات واحتلالات، قد انطوت على تدمير (إن لم نقل استهداف صريح) للبنية التحتيّة للكهرباء في لبنان. ولكن ما من شكّ أيضًا أن التسوية (أو التسويات) السياسيّة التي تلت الحرب ومختلف جهود إعادة الإعمار قد فشلت في معالجة هذا الدمار ونتائجه على إنتاج الكهرباء واستهلاكها بشكل ملائم.
وبعد، لا يصحُّ تاريخيًّا الزعم بأنّ قطاع الكهرباء كان يلبّي حاجات المواطنين اللبنانيّين كما يلزم قبل الحرب، أو أنّه كان بمنأىً عن الإنتقادات العامّة، والمصالح الخاصّة المتنافسة، والإختلالات البنيويّة. ومن الجدير أن نذكر هنا أنّ توليد الكهرباء وتوزيعها على الأراضي الّتي تتشكّل منها الجمهوريّة اللبنانيّة قد انطلق في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ففي ذلك الوقت، منحت السلطات العثمانية، ومن ثمّ المفوّض السامي الفرنسي ولاحقاً الحكومة اللبنانيّة، بالتعاون مع السلطات البلديّة المحليّة، عددًا من الإمتيازات المحدّدة لتوليد الكهرباء و/أو نقلها و/أو توزيعها في بيروت وغيرها من المدن. فالدولة اللبنانيّة لم تُنشئ مؤسّسة كهرباء لبنان إلاّ في العام 1964، فأرست بذلك احتكار الدولة لقطاع الكهرباء في البلاد.
لم يُكتب ما يكفي حول هذه المرحلة التاريخيّة (أي الإمتيازات الفرديّة، وتعزيزها تحت مظلّة احتكار الدولة، وما جرى بعد ذلك). غير أنّ عددًا محدّدًا من العلماء ألقوا الضوء على جوانب مختلفة من هذه المرحلة لاتّصالها بمسائل أوسع نطاقًا تتعلّق بالحوكمة والأعمال التجاريّة والتخطيط. فتمّ التركيز بشكل خاص على مرحلة أواخر الحكم العثماني، والإنتداب الفرنسي، وأواخر حقبة الاستقلال. أمّا بحثي فيركّز على ديناميّات الكهرباء كمرفق عام في بيروت خلال مطلع مرحلة الاستقلال.
في البداية، تمثّل الهدف الأساسي من إنتاج الكهرباء في بيروت في تغذية خدمات الترامواي بالطاقة، فيما كانت الإضاءة مؤمّنة بموجب إمتياز الغاز. أمّا امتياز الكهرباء الأساسي، فقد امتلكته شركة الترامواي والتنوير العثمانيّة المغفلة في بيروت (المنشأة عام 1906) والّتي باشرت بإدارة نظام الترامواي عام 1909. وأدّت التطوّرات الإقتصاديّة والسياسيّة خلال العقدين اللاحقين -الّتي أتناولها في قسم آخر من البحث والمتمحورة حول الحرب العالميّة الأولى- إلى نقل الحقوق والأصول التابعة للشركة الأصليّة إلى أخرى جديدة سُميّت بشركة الترامواي والإنارة في بيروت. وكان التغيير في تكنولوجيا الإنارة من الغاز إلى الكهرباء أبرز ما ميّز هذه النقلة في ذلك الوقت، إذ تسلّمت الشركة الجديدة أيضًا امتياز التنوير الأساسي بالغاز. وبشكل عام، عُرفت الشركة في حقبة الإنتداب بشركة كهرباء بيروت، ما يدلّ على أنّ الكهرباء أصبحت بحدّ ذاتها مرفق لتوفير الخدمة العامّة الأساسيّة الى مجموعة متشعّبة من المستهلكين المنزليين والتجاريين والصناعيّين.
ويتضّح جليًّا عند قراءة مقالات الصحف والدراسات الفنيّة وحتّى تقارير التنمية العامّة المنشورة في الأربعينيّات والخمسينيّات من القرن العشرين أنّ مسائل ملكيّة المرفق وجودة الخدمة وأسعار الاستهلاك المتّصلة بالكهرباء خلال الحقبة الأولى للاستقلال شكّلت عنصرًا هامًا من النقاش العام حول الاستقلال السياسي، والتنمية الاقتصاديّة، والمرافق العامّة، والفساد. وعُلّقت أهميّة كبيرة أيضًا على أسعار الكهرباء. وتردّدت في ذلك الوقت اثنان من الشكاوى الفنيّة تتصلان بعدم استقرار التيّار الكهربائي والانقطاع المتكرّر للكهرباء. وكان للمستهلكين، والسياسيّين الناشطين في مجال الإصلاح السياسي ، ورجال الأعمال المتنافسين مصالح مختلفة وإنّما متداخلة لجهة الإضاءة على هذه المسائل والضغط باتّجاه التدخّل الحكومي، الّذي غاب غيابًا شبه كلّي في مجال الكهرباء منذ الاستقلال.
وبالتالي، لا يصحّ بكلّ بساطةٍ الزعم بأنّ كلّ شيء كان على ما يرام في قطاع الكهرباء قبل الحرب الأهليّة، أو حتّى بأنّ قطاع الكهرباء لم يتحوّل إلى مسألة جدليّة إلاّ بعد موجات النزوح الكبرى من الريف إلى المُدُن. فتاريخيًّا، لطالما شكّل هذا القطاع محورًا جدليًّا ونزاعيًّا وتعبويًّا، إن عند إنشائه، أو لجهة عدم المساواة في توزيع شبكة الكهرباء والوصول إليها، أو ملكيّة الكهرباء وجودتها، وأسعارها. دون ان ننسى طبعًا المركز المحوري الّذي احتلتّه الكهرباء في التطلّعات المتضاربة الّتي قولبت الأفكار الأولى وراء مشروع نهر الليطاني والجدليّات المحيطة به، وهو أهمّ مشاريع التنمية الحكوميّة في بداية حقبة الإستقلال، وقد تمّ الترويج للمشروع بعد ذلك على أنّه الحلّ لجميع مشاكل الكهرباء في لبنان.
على الرغم من المشاكل المستفحلة المتّصلة بتوليد الكهرباء وتوزيعها في لبنان، فإنّ عمّال الكهرباء لا مستهلكيها هم من قاموا بتنظّيم العدد الأكبر من التظاهرات الإحتجاجيّة والحملات المطلبيّة في قطاع الكهرباء. فهل تُعتبر هذه المسألة العماليّة حديثة نسبيًّا في تاريخ لبنان، وهل لطالما اكتفى المستهلكون بلعب هذا الدور المُذعن إن جاز القول؟
هذا السؤال يسلّط الضوء على عدد من المسائل. فتاريخيًّا، لطالما كان عمّال قطاع الكهرباء ناشطون في مسألة الحقوق العماليّة، وفي أحداثٍ معيّنة شكّلت اتّحاداتهم قوى إجتماعيّة فاعلة سياسيًّا. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مطالب عمّال الكهرباء وأشكال التعبئة قد تغيّرت مع الوقت. واتّسمت هذه المطالب بديناميّة مختلفة في مرحلة ما بعد الحرب لجملة من الأمور، من بينها مسألة الخصخصة الفعليّة لشركة كهرباء لبنان، والتغيّر في الخطاب والممارسة لجهة التوزيع الطائفي.
وإذا كانت تحرّكات العمّال متماسكة في كلّ مراحل تاريخ قطاع الكهرباء، فالأمر لا ينطبق على المستهلكين. قبل الحرب الأهليّة، شكّل مستهلكو الكهرباء (المنزليّون منهم، والتجّار، والصناعيّون) عاملاً أساسيّا في التعبئة المنظّمة. تلك كانت الحال على الأقلّ في أواخر الحقبة العثمانيّة، وخلال فترة الإنتداب الفرنسي وأولى مراحل الإستقلال. وفي حين كانت الإحتجاجات في آخر الحقبة العثمانيّة لأغراض محددة، شهدت حقبة الإنتداب الفرنسي وحدها ثلاث حملات مقاطعة كبرى للمستهلكين في الأعوام 1922 و1931 و1935. تميّزت هذه الأحداث بإنشاء لجان مقاطعة في محاولة للضغط على الشركة لخفض الأسعار وتحسين جودة الخدمات. وبما أنّ الشركة نفسها كانت توفّر خدمتي الكهرباء والترامواي في بيروت، فقد توجّهت الإحتجاجات في معظم الحالات ضدّهما معًا، في محاولة للاستعانة بكلّ الوسائل الممكنة للضغط ماليًّا على الشركة. وفي مطلع الخمسينيّات، قامت مجموعة من مستهلكي الطبقة الوسطى وحاملي لواء الإصلاح السياسي بتنظيم حملة إحتجاجيّة كبرى دامت ثمانية أشهر تقريبًا، ولم تنتهِ إلاّ بعد تدخّل الحكومة لفرض خفض رسوم الكهرباء، وهو ما شكّل المطلب الأساسي (وإن لم يكن الوحيد) للمحتجّين ومنظّمي الحملة. فحتّى السياسيّون ورجال الأعمال قاموا بالمبادرات في مجال الكهرباء لتحسين موقعهم السياسي أو لتوسيع مصالحهم الإقتصاديّة. ومن الأمثلة على ذلك قيام كميل شمعون بتأميم شركة كهرباء بيروت فعليًّا في 1953-54، كوسيلة لتعزيز رصيده القومي والإصلاحي. ونذكر مثالاً آخر سعى مستثمرو القطاع الخاص إلى الحصول على امتيازات لتوليد الكهرباء وبيعها للشركة لدعم مستويات الإنتاج المتدنية وغير القادرة على تلبية الطلب على الطاقة، مع تقديم هامش ربح في الوقت عينه. وما محطّتا نهر ابراهيم ونهر البارد سوى نتيجة لهذه الجهود ودلالة على بعض مخلّفاتها.
غالبًا ما يتوازى الجدل حول قطاع الكهرباء مع نقاش حول الخصخصة، وفاعليّة السوق، وقدرة الدولة. فمن أيّ نواحٍ يشكّل ذلك استمرارًا للجدالات التاريخية حول قطاع الكهرباء أو يضع حدًّا لها؟
في بداية حقبة الاستقلال، تمثّلت المشكلة بأنّ تأمين الكهرباء كان مرهونًا بمصالح خاصّة، ما يستدعي بالتالي تأميم القطاع إذ كان يُنظر الى الدولة على أنّها الكافل الوحيد الفعلي للصالح العام. غير أنّ هذا المطلب بحدّ ذاته كان مرتكزًا إلى مجموعة مختلفة جدًّا من الأطر المعياريّة والنظريّة، في زمنِ أوليت فيه قيمة كبيرة لدور الدُوَل في إدارة التنمية الإقتصاديّة وحماية المصالح العامّة. وبالتالي، وفي حين أنّ الدعوة لخصخصة شركة كهرباء لبنان في التسعينيّات والعقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين تنبع من مفاهيم محدّدة لقدرات الدولة اللبنانيّة، من الأهميّة بمكان أيضًا الإقرار بأنّ التنمية الإقتصادية السائدة قد تغّيّرت بشكل كبير منذ الخمسينيّات والستينيّات، وباتت تولي القيمة الأكبر للأسواق لا للدول.
وعليه، فأنا لا أعتقد بالضرورة أنّ هذا النقاش مثمر جدًّا، سيّما على ضوء العلاقات غير الرسمية بمعظمها بين مسؤولي الدولة ورجال الأعمال في لبنان. فالمسألة التي تهمّني شخصيًّا تكمن في كيفيّة استخدام الخطاب حول غياب الدولة في لبنان (أي "وين الدولة") لدعم حجّة نيوليبراليّة وإنّما غير جديدة حول فاعليّة الأسواق. إلى ذلك، فالنقاش حول الملكيّة العامّة أو الخاصّة يضع المستهلك في صفّ الجمهور الصامت ويجعل منه ضحيةً لهذا الجدل ونتائجه. فالكهرباء في لبنان تجارة، وهي تجارة بارزة سياسيًّا. بالتالي، قد يكون من الأجدى التفكير بطرق لتعبئة المستهلكين، إمّا ضدّ الدولة أو القطاع الخاص، للمطالبة بأسعار وخدمات أفضل للكهرباء، ودعم هذه الدعوة بعمل جماعي يضع الإصبع على الجرح، فيهدّد الحكومة بإسقاطها والشركات بإيراداتها.